الواقعية الإيطالية الجديدة

0


إنْ كان على المرء أن ينظر إلى تاريخ الحركات السينمائية فحتمًا سيرى أن الكثير منها قد حدث بسبب المخاوف الفنية للأشخاص المعنيين بها. فمثلًا، لم يكن رواد الموجة الفرنسية الجديدة كـ "جان لوك-جودار" و"فرانسوا تروفو" راضيين عن الوضع الراهن للسينما فى بلادهم فى خمسينيات القرن الماضى وشعروا بوجوب القيام بشئ حيال ذلك.
مع ذلك، لم تكن الواقعية الإيطالية الجديدة فى فترة ما بعد الحرب رد فعل فنى فقط، بل كانت أيضًا وليدة الحاجة. ما جعل مهمة تعريف الواقعية الجديدة Neorealism صعبًا للغاية هو أنه بالرغم من أن معظم أفلام الواقعية الجديدة لديها نفس النمط فيما يتعلق بأفكارها الأساسية وموضعاتها إلا أن لكلٍ منها -الأفلام- طريقتها المميزة والواضحة فى التعامل مع تلك الموضوعات. إحدى الميزات الواضحة لأفلام الواقعية الجديدة هى أنه كان يتم تصويرها فى أماكن خارجية بدلًا من الاستوديوهات على عكس أفلام هولييود فى تلك الفترة. كان هذا فى الأساس بسبب التكاليف الباهظة الخاصة بالاستوديوهات الإيطالية التى تأثرت بالحرب بشدة. ساهم موقع التصوير بشكلٍ كبير فى الطبيعة الواقعية لأفلام الواقعية الجديدة وأيضًا كان لديه تأثيرٌعلى سرد أحداث الأفلام. فى معظم افلام الواقعية الجديدة، تُصبح مواقع التصوير والمساحات التى تشكلها تلك الأفلام شخصياتٍ فى حد ذاتها، ومخرجى الواقعية الجديدة -بدراية أو بدون دراية- مكّنهم من سرد قصصهم لأهمية تاريخهم الخاص. كما يشير Brent J. Piepergerdes فى ورقته البحثية "إعادة تصور الأمة: سينما الواقعية الجديدة وحالة ما بعد الحرب Re-envisioning the Nation: Film Neorealism and the Postwar Condition" فى روائع الواقعية الجديدة "الفضاء يصبح مفتوحًا ونشطًا وفعالًا Space becomes open, active, and effective." (صـ242، 2007) يلعب موقع التصوير دورًا حاسمًا خاصة فى فيلم روسيلينى "ألمانيا، سنة صفر Germania anno zero". الفيلم يبدأ وينتهى بمشاهد لأبنيةٍ قديمة وبالية التى تصور وحشية الحرب التى شهدتها للتو. عندما نرى "إدموند" -بطل الفيلم اليافع- يحفر القبور، نُترك متسائلين ما إذا كان بإمكان الأشخاص المحترمون/اللطفاء العيش فى أماكن كهذه.  إن كان للحرب تأثيرٌ كهذا على المبانى الضخمة، فمن المخيف أن نفكر فى تأثيرها على الأفرد وخاصة الأطفال.

Germania anno zero (1948)

يبرز فيلم "ألمانية، سنة صفر Germania anno zero" فى قائمة أفلام -فيلموجرافيا- روسيلينى وكذلك فى "ثلاثية الحرب" على حدٍ سواء. على عكس أفلامه الأخرى والتى يكون بطلها طفل ألمانى. نحن بالفعل على درايةٍ بشخصية الطفل فى أفلام "دى سيكا De Sica" الدرامية القوية. كما يقول Piepergerdes :
"وضعت صُور الواقعيين الجدد Neorealist الأطفال خارج نظام التعليم الرسمى، متورطين فى الصراعات اليومية وصراعات الحياة الواقعية من أجل البقاء فى بيئة ما بعد الحرب. جُرد الأطفال من برائتهم، وتُركوا دون حماية لتفكك الأسرة التقليدية ويُتّموا فى أحيانٍ كثيرة نتيجةً للحرب وأُجبروا على رعاية أنفسهم. فُقد تأمين حياة منزلية خاصة مصونة؛ حيث أُجبر الأولاد على القيام بدور "المُعيل" والفتيات بدور "مُقدمة الرعاية caregiver"." صـ243-24.

Roberto Rossellini & Anna Magnani (1948)
بالنسبة لـ"دى سيكا" الأطفال أبريـاء ويستخدمهم ليكون لهم تأثير عاطفى على الجمهور. فمثلًا، "برونو" فى فيلم "سارق الدراجة Ladri di biciclette" كان له تأثير كبير على كثيرٍ ممن وضعوا أنفسهم فى موقفه ومكانه. مع ذلك، فإن شخصية "إدموند" فى أفلام "روسيلينى" ليس من السهل أن نتعاطف معها. بالرغم من أن روسيلينى يُظهر لنا الجانب الأخر من الخيط ويوضح كيف أن الحرب أثرت بشكل سلبى على ألمانيا وكذلك إيطاليا، إلا أنه مازال لايتسطيع أن يثبت أن "إدموند" طفل جيد وبرئ تمامًا. بعد كل هذا، يقتل والده. غير أن "روسيلينى" جعلنا نعتقد أن أفعال "إدموند" مبررة نتيجةً للفقر الناتج عن الحرب. يُحقق هذا بطريقته الفريدة من نوعها. بعد قضاء معظم وقت الفيلم فى تأسيس أجواء أخلاقية/معنوية ومادية، أخذ يركز على السمات الفردية التى تلفت الإنتباه لأفعال "إدموند". كما هو موضح فى مقال لـ"لورو فينتورى Lauro Venturi" بعنوان "روبرتو روسيلينى"، بعد بناء وتكوين البيئة اللازمة " أصبح بإمكان روسيلينى أن يركز بشكل كامل على الصبى وأداء دوره، وهو الحنق المرئى المُشاهَد المصاحِب للصبى وهو يلعب فى شوارع برلين الممزققة، وتسلقه البطئ لأعلى المبانى المدمرة وختامًا إنتحاره." صـ6.


(Germania, anno zero (1948
تميل أفلام الواقعية الجديدة فى كثيرٍ من الأحيان إلى تضمين شخصيات تسعى للتعافى من آثار الحرب العالمية الثانية وتغطية نفقات معيشتهم make ends meet. فى الحقيقة، كانت المشاكل والصعوبات الإقتصادية والفقر -دون ريب- هى الموضوعات الأكثر شيوعًا للحركة. تكون سلوك الشخصيات فى أفلام الواقعية الجديدة مدفوعة بشكل عام بالظروف الإقتصادية فى فترة ما بعد الحرب. فى كثيرٍ من الأمثلة نرى أفردًا أو/و عائلاتٍ تكافح لكسب قوت عيشهم. المواقف والظروف التى كانوا فيها أجبرت الشخصيات الرئيسية على القيام بأشياء لا يفعلونها عادةً. يتجسد ذلك بشكل أفضل فى فيلم "سارق الدراجة" لـ"دى سيكا. بعد فترة طويلة من البطالة، يبدأ "أنطونيو" -البطل- وظيفة تتطلب منه أن يمتلك دراجة. عاجزٌ عن شراء دراجة جديدة، يقوم هو وزوجته ببيع الملاءات خاصتهم للحصول على بعض المال. مع ذلك، سُرقت دراجته فى اليوم الأول له كمعلق ملصقات. لم يتكمن "أنطونيو" و"برونو" من إيجاد الدراجة، على الرغم من البحث الشاق فى الحى. ولأن "أنطونيو" لم يتستطع تحمل خطر كونه سيصبح عاطلًا مرةً أخرى، يحاول "أنطونيو" سرقة دراجة شخصٍ آخر ويصبح بذلك مجرد "سارقُ دراجةٍ" آخر. 

فى هذا المثال -نحن كمشاهدين- نُقاد إلى الإعتقاد بأن السرقة هى الخيار الأوحد لدى "أنطونيو". هذا -بالطبع- يدين بالكثير لبراعة "دى سيكا" فى خلق شخصياتٍ حقيقية بحيث يتعاطف المشاهد مع الشخصية المُصورة على الشاشة. لذلك السبب يعتمد نجاح "سارق الدراجة Ladri di biciclette" أو أى تحفة فنية أخرى على حقيقة أن كثير من مخرجى الواقعية الجديدة إعتمدوا على الحياة ذاتها فى معالجة الموضوع. كما يقترح "بيتر بوندانيلا Peter Bondanella" فى كتابه ( السينما الإيطالية: من الواقعية الجديدة إلى الآن Italian Cinema: From Neorealism to the Present):
"كانت القصة المهيمنة فى أفلام الواقعية الجديدة أو على الأقل أغلبيتها هى أنهم تعاملوا مع المشاكل الواقعية ووظفوا القصص المعاصرة وركزوا على الشخصيات المُصدقة المأخوذة من الحياة اليومية الإيطالية." صـ34.

يطرح فيلم "امبيرتو د Umberto D" -فيلمٌ آخر لـ"دى سيكا"- بطلًا آخرًا على غرارِ فيلم "سائق الدراجة Ladri di biciclette": عجوزٌ كهلٌ متقاعد، رفيقه الوحيد هو كلبه، وخادمة معاشه الذى يسكنه، "ماريا". فى فاتحةِ الفيلم، قُدّم كرجلٍ عجوز لديه مشقة فى الحصول على المال لدفع إيجاره. يتفاقم حاله عندما تُبلغه مالكة النُزُل المتعجرفة أنها ستطرده قريبًا. بنحوٍ مماثل لـ"أنطونيو" -وبلا خيارات أخرى متبقية، يمارس "أمبرتو" التسول فى الطرقات. لكنَّ، كرجلٍ محترمٍ شعر بالإهانة لهذا الفعل بالذات. لكن بدلًا من ذلك يتسول بكلبه "فلاج أو فلايك". فشلت هذه المحاولة هى الأخرى، عندما يلتقى "أمبرتو" أحد معارفه القديمة، يشعر بالخجل ويتظاهر بأن "فلايك" يلعب فقط. أخيرًا، هو رجلٌ مُهيب خدم بلاده ثلاثين عامًا. كما أشار "بوندانيلا Bondanella":
"لكون "أمبرتو" من الطبقة الوسطى، فحياته تدور حول الحفاظ على مظهره الخارجى، قميص نظيف وسلوك مناسب وأخلاق حميدة، ما يسيميه الإيطاليون علنًا "الشخصية الرائعة bella figura". بينما يؤدى التضخم والمرض إلى تآكل معاشه الشحيح، فإنه يخشى تقريبًا من فقدان مظهره، أن يظهر فقيرًا، أكثرَ من الفقر ذاته." صـ63.
تختلف شخصية "أمبرتو" فى فيلم "امبرتو د Umberto D" لـ "دى سيكا"  فى هذا المشهد بشكل كبير عن أى شخصية رئيسية فى الواقعية الجديدة. فهو ليس عاملًا ككثيرٍ من الشخصيات الأخرى، لذا فهو غير مُعتاد على الظروف المعيشية القاسية. على أية حال، لا تتشابه جُل الشخصيات فى أفلام الواقعية الجديدة مما يُلغى تقييد الحركة فيما يتعلق بالشخصيات. 
كما ذَكر "بيبرجيردز Piepergerdes ":
"إن سرد الفقر والبطالة الذى ميز البيئة الإيطالية بعد الحرب، يعمل أيضًا كموازن equalizer إجتماعى عظيم فيما يقترحه بأن جميع المواطنين، بغض النظر عن الطبقة والإقليم والموقع الحضرى والريفى، يواجهون نفس الصراع من أجل البقاء." صـ245.
لا يهم مدى إختلاف خلفياتهم وأحوالهم الإجتماعية، كل شخصياتِ الواقعية الجديدة قد تتأثر سلبًا بالحرب.

 (Umberto D (1952
إذا رجعنا إلى السياق المذكور أعلاه فى فيلم "أمبرتو د" ، فإن نُصبًا إيطاليًا معروفًا يشكل خلفية تلك اللحظة المؤثرة. يذكر "فرنون يونج Vernon Young" هذا المشهد فى  بحثه "أمبرتو د: واقعية فيتوريو دى سيكا المفرطة" بقوله:
"عمود أثرى وَطِيد، متصدع عند القاعدة، هو المشهد الخلفى لذلك التصرف البائس." صـ595. إنه حتمًا مبنى البانثيون بكل مجده وتاريخه، وهو ليس فى هذا المشهد بلا علةٍ. هو واحدٌ من النصب الأثرية الموروثة عن الإمبراطورية الرومانية، التى تتجاور بشكل هائل مع الوضع الحالى لإيطاليا. لدى الإمبراطورية الرومانية ماضٍ هام، لكن مع التأثير المُخرِب للحرب العالمية الثانية، تزعزع هذا الماضى. أمام مبنى البانثيون، لدينا "أمبرتو"، الذى ربما كان يحظى بإحترامٍ عندما كان قيد العمل، لكن الآن لم يعد لديه شئ يفعله سوى التسول من أجل ضمان سلامته. هذا أيضًا يوضح حقيقة أن المدن والمبانى والأماكن الأثرية تلعب دورًا جليلًا فى قولبة المعنى وتشكليه فى أفلام الواقعية الجديدة. 
فى فيلم "ألمانيا، سنة صفر Germania anno zero"، يرعى "إدموند" العائلة بأكملها. إنه طفل، لكن "روسيلينى" يعامله كبالغ، ممثلًا لكل الأطفال الألمان الذين شهدوا الحرب العالمية الثانية. إنه، كحال "أنطونيو" و"أمبرتو"، يفعل شيئًا لا يمكن أن يتراءى للجمهور، يسمم والده العليل، لكننا نجد أنفسنا نتعاطف معه. نَجم فعله هذا عن معلمه المتعاطف من النازيين، "هير ايننيج Herr Enning" الذى يحاضره عن الداروينية الإجتماعية وبقاء الأصلح. يُدرك "إدموند" بالفعل حقيقة أن والده يمقت كونه عبئًا عليه، ويعتقد جُل الأسرة أنه يقدّم -بفعله هذا- خدمةً للجميع. لكن سُرعان ما يدرك ما فعله حقًا، ويقتل نفسه فى نهاية الأمر. 
بيد أن كثيرًا من أفلام الواقعية الجديدة تعتمد على الأحداث الدرامية والشخصيات. "من الناحية الموضوعية، فإن العامل الموحّد للأعمال الرئيسية للواقعية الجديدة هو الإهتمام بتمثيل منازعات الحياة اليومية والعادية الخاصة بالطبقة العاملة فى المناخ المتذبذب لإعادة الإعمار بعد الحرب." (بيبرجيردز، صـ238، 2007). كما يُظهر "بيبرجيردز"، على عكس أفلام "الهواتف بيضاء telefoni bianchi" فى السنوات الغابرة، مع السينما الإيطالية الواقعية الجديدة التى حوّلت إنتباهها الآن للأشخاص العاديين الذين تم تجاهلهم لسنواتٍ عديدة. أراد المخرجون الصغار والطموحون تصوير ما رأوه يوميًا فى الشوارع، وبالتالى شكلوا منظورًا مختلفًا للطريقة التى ننظر بها إلى السينما. يُعرّف "سيسار زايڤاتينى Cesare Zavattini" -الكاتب والمخرج المرموق للغاية- "الوظيفة الحقيقية للسينما" بأنها "لا تسرد الخرافات، من أجل دورٍ حقيقى يجب تَذكُر ذلك... يجب على السينما أن تحكى الواقع كما لو كان قصة، يجب ألا يكون هناك فجوة بين الحياة وما يُعرض على الشاشة." (باسيفيكى، صـ51، 1956).  أدت المعوقات الإقتصادية لإيطاليا بعد الحرب وإفتنان مخرجى الواقعية الجديدة بالواقع إلى الإعتماد على ممثلين غير محترفين. "دى سيكا"، من بين آخرين، عمل مع الممثلين غير المحترفين. كما يكتب "مارك شيل Mark Shiel" فى كتابه "الواقعية الإيطالية الجديدة: إعادة بناء المدينة السينمائية Italian Neorealism: Rebuilding the Cinematic City": "دى سيكا" ذكر مرةً أن الممثلين غير المحترفين "مادةٌ خام يمكن تشكيلها حسب الرغبة" وأنه "كان من الأسهل بكثيرٍ تحقيق معنى الأصالة والذاتية العفوية مع غير المحترف من الممثل المتدرب الذى يجب عليه أن ينسى مهنته عند العمل فى فيلم واقعى." صـ56، 2006. لذا، كثير من أفلام الواقعية  الجديدة المهمة تشتمل على أبطال لديهم "واقعية" معينة مرتبطةٌ بهم. 


(La strada (1954
على الرغم من كل البؤس والتراجيديا المُصورة فى أعمال الواقعية الجديدة، فإنهم أيضًا يجمعون أُسسًا متناقضة معًا. لقد أثبتنا بالفعل أنهم يعتمدون كثيرًا على أحداث درامية و"حقيقية" للوصول إلى جمهورهم. لكنّهم يستعينوا كثيرًا  بالشخصيات والمواقف الهزلية بشكل ممتاز، مثلًا فيلم "الطريق La strada" للمخرج "فيدريكو فيللينى" مثالٌ جيد على ذلك. حقيقة أن واحدًا من الشخصيات الثانوية -"زامبانو" الغاضب- فنان متجول وأن الشخصية الرئيسية -جلسومينا الساذجة- تُباع له من قبل أمها بديلًا لأختها المتوفاة، تُضيف طبيعةً هزلية للفيلم. لدى "جلسومينا" وجهٌ كوميدي ومظهرٌ شبيه بالمهرج، مما تبع ذلك مقارنتها بـشخصية "الصعلوك الصغير" لـ "تشارلى تشابلن". فى الواقع، إنها تذكرنا بالنسخة النسائية من "الصعلوك الصغير" بسبب قصر قمتها وتعبيرات وجهها الساذجة wide-eyed وقدميها المتعثرة. تعطى "جلسومينا" وعروضها مع "زامبانو" و"الأحمق" الفيلم إرتياحًا فُكاهيًا، والتى جعلت الفيلم بطريقة ما اقل عمقًا heavy. بالإضافة إلى عناصره الهزلية، فيلم "الطريق" يتعهد للجمهور بما هو أكثر من الكوميديا والتراجيديا. فهو يتبنى خطابًا وجوديًا بدرجةٍ أكبر من العديد من الأفلام الواقعية الجديدة الأخرى. هذا -بالتأكيد- يرجع إلى منهاج "فيللينى" المختلف تجاه الواقعية الجديدة. فى كتابه "سينما فيدريكو فيللينى The Cinema of Federico Fellini" يقتبس "بوندانيلا Bondanella " وصف فيللينى للواقعية الجديدة بأنها "تنظر إلى الواقع بعين صادقة، بل أى نوعٍ من الواقع، ليس الواقع الإجتماعى فقط، بل أيضًا الواقع الرُوحانى/الثيوقراطى spiritual والواقع الميتافيزيقى، وأى شيء يوجد الإنسانُ بداخله." صـ70، 1992. من هذا المنطلق، يحتل فيلم "الطريق" مكانةً مختلفةً عن الأمثلة الأخرى للواقعية الجديدة. فى فيلم "الطريق"، تلعب شخصية "الأحمق" دورًا هامًا فى صوغ المسألة الوجودية. حوار "الأحمق" مع "جلسومينا" حول حصاةٍ يجسد الطبيعة الوجودية للفيلم:

"الأحمق: أنا جهولٌ ولكن أقرأُ الكتب. لن تصدقى هذا، مفيدٌ كل شئ، تلك الحصاة مثلًا.
جلسومينا: أىُ واحدة؟
الأحمق: أى منها يكون مفيدًا
جلسومينا: لماذا؟
الأحمق:  لأجل... وما يدرينى. لو كنت أعرف لأصبحت إلهًا "جبارًا"، من يعرف كل شئ. عندما تولدين وتموتين .. من يدرى؟ لا أدرى ما فائدة تلك الحصاة، لكن مؤكد أنها مفيدة. لأنه لو كانت جُفاءً فإن كل شئ يكون كذلك، وكذا النجوم؟!"

 فى الحقيقة، لم يكشف الفيلم عن إسم "الأحمق"، ونُطلق عليه "الأحمق" لأن "جلسومينا" تفعل ذلك. ربما يكون لذلك علاقةً بحقيقة أن "الأحمق" يفكر كثيرًا ويتصرف بطريقة غريبة، بطريقة لم يسبق لـ "جلسومينا" رؤيتها. ربما يكون ذلك أيضًا هو سبب إنجذاب "جلسومينا" له فى المقام الأول، وهذا ما كان يفتقده "زامبانو". فعلًا، تشكو "جلسومينا" تكرارًا ومرارًا بأن "زامبانو" لا يفكر أبدًا فى أشياءٍ معينة.  
كانت الواقعية الجديدة حركة سينمائية عابرة قصيرة الأجل. مع ذلك، لم تكن مقيدة ومكنت المخرجين الواقعيين الجدد من إستخْدام إبداعـهم والتعامل مع المشكلات الخانقة فى إيطاليا بعد الحرب. فى هذه الأطروحة، تمت مناقشة أفلام "ألمانية، سنة صفر" و" سارق الدراجة" وأمبرتو د" و"الطريق" من ناحية مواضيعها وأفكارها وسيماتها. لقد تبين أن أفلام الواقعية الجديدة ليسوا سواءً، بل لكلٍ منها خصائصها المميزة للغاية.

لمن يود الإطلاع على الأطروحة غير المترجمة: Esma Kartal, Volume 2.2 (2013), Defining Italian Neorealism: A Compulsory Movement 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جميع الحقوق محفوظه © محمد م. الشرقاوى

تصميم الورشه