السينما الإيرانية | الشُدْفة الأولى

0
(1932) Haji, the Movie Star
افتُتحت أول سينما فى إيران فى عام 1900م. عُرضت الأفلام الأجنبية وتقارير الأخبار والوثائقيات تحت رعاية الدولة فى باكورة السينمات. أُنتج أول فيلم إيرانى طويل "Abi and Rabi" فى عام 1930م، وأنتج مخرجه "Avanes Ohanian" فيما بعد فيلم "Haji, the Movie Star" عام 1932؛ مدافعًا به عن السينما ضد إتهامات الفساد الأخلاقى. بمجئ الصوت، أضحت الأفلام الناطقة باللغة الفارسية رائجةً اِبتداءً بـفيلم (The Lor Girl (1933، مُتأثرين أولًا بالسينما الهندية. لطالما شكّلت الرقابة السينما الإيرانية؛ ففى أربعينيات القرن الماضى، مئاتٌ من الأفلام الأجنبية خالفت/خرجت عن التشريعات المُشدّدة للعرض. فلا يمكن لفيلمٍ مُصوِرًا الثورة أو الإضرابات أو الإتجاهات المعادية للإسلام أن يُعرض. إزدهر وتَزكّى إنتاج الفيلم الإيرانى.


كانت ستينيات القرن الماضى أمد التأثير الغربى المُتنامى. وطد نظام الشاه سلطته بفضل أموال النفط ومساعدة الولايات المتحدة. صارت المصالح الأجنبية مُهيمنة فى وسائل الإعلام. غير أنّه برز إلى الوجود موجة جديدة من صانعى الأفلام الإيرانيين مُستخدمين التقنيات المُبتكرة غير وَجِلين من النقد الإجتماعى Social commentary. إذ قدّم الفيلم المُبتكر The Cow (1969) لـ"داريوش مهرجوئي" وترًا واقعيًا جديدًا ذا طابعٍ أوروبى إلى السينما الإيرانية. إذ هو كان أولُ فيلمٍ يُصور بحذافيره/كُليةً فى مـوقع داخل قريةٍ، وأظهر دون وجلٍ الفقرَ الموجود فى المناطق القروية. يصور الفيلم مزارعًا لديه إرتباطًا وثيقًا ببقرته الحامل. يفقد بقرته فـرِزقه، برغم أن القرويّون قالوا زوّرًا بمصيرها، وعيّن ختامًا بشكلٍ وثيق مع بقرته أنه والبقرة سواء. علاقة الإنسان-الحيوان هى رمزية لعلاقة الإنسان مع الطبيعة، ولاسيما المناظر الطبيعية العتيقة وثقافة إيران. الرمزية داخل الفيلم ترتئي بأن تلكم الأشياء يتم تقويضها. الفيلم الذى رعته الدولة، سريعًا ما منعته. تصادمت رؤيته مع الصورة التقدمية لإيران التى تمنى الشاه إظهارها، لمّا ذاع صيته فى مهرجانات الأفلام العالمية كدّر بذلك النظام الحاكم. فيلمٌ آخر صُدر فى عام 1969 -فيلم (قيصر) لـ"مسعود كيميايي"- خرج أيضًا عن الأساليب التقليدية لصناعة الأفلام الإيرانية بإستخدام تقنيات مُبتكرة، وعلى نحوٍ مماثل حمل فى طياته هجومًا على تغريب الثقافة الإيرانية.



أخذت شعبية نظام الشاه فى إيران بالإضمحلال لكثرة الترف وتغريب الثقافة الفارسية، ففى نموذجٍ كارثى للعلاقات العامة، عيّن الشاه مخرج هوليوودى لأَرْكَسَت حدثٍ عام 1972 بمناسبة الذكرى الـ2500 للإحتفال بالثقافة الفارسية على الأنقاض القديمة لمدينة برسبوليس "تخت جمشيد"، لم يكن هناك شيئًا يعبر عن إستعمار الغرب للثقافة الفارسية أكثر من ذلك.



تتابع فى تلكم السنوات، 1970s، إنتاج أفلام ذات جودة عالية، كأفلام المخرج الإيرانى "بهرام بيضائي"  مثل فيلم Gharibeh Va Meh (1976)، إذ أُنتج فيما بين 45-70 فيلمًا سنويًا فقط للسوق المحلى. لكنّ السينما الإيرانية فى تلكم السنوات كانت فى إنحدارٍ مؤذنة بذلك قيام الثورة الإسلامية.


غيرت الثورة الإسلامية كل شئ. كانت السينما فى باكورة أيام الثورة مُستهجنة؛ لإرتباطها المٌتصور بنظام الشاه والتأثير الغربى. أُحرقت أكثر من 180 سينما، بدوره قيّد عرض الكثير من الأفلام لسنواتٍ طوال. فى واحدة من الحوادث، أربعمائة شخصٍ قضوا أجلهم فى حريقٍ مُتعمد داخل سينما فى مدينة عبادان. مُنعت الأفلام الأجنبية فى البداية، لكن عُرِضت فيما بعد فى نسخٍ خاضعةٍ للرقابة الشديدة. كان على صانعى الأفلام العمل وسط تشريعات رقابية مشددة للغاية. بدايةً لم يكن واضحًا إلى أى مدى ذهبت الرقابة. خضع التعليق الإجتماعى للرقابة الذاتية، والنساء تحديدًا كنّ غائباتٍ عن شاشات السينما لعددٍ من السنين. 



كانت بذور النهضة من خلال فيلمى Ballad of Tara (1980) وDeath of Yazd-e Gerd (1982) للمخرج بهرام بيضائى، وفيلم Search (1982) للمخرج أمير ناديرى، بالرغم من أن تلكم الأفلام مُنعت من العرض فى إيران. وفى منتصف الثمانينيات، غُيرت السياسة الرسمية من أجل الترويج لإنتاج أفلام محلية، فعاد القدامى من المخرجين إلى الظهور مرة أخرى وظهر مخرجون جُدد. فيلمان إستثنائيان أُصدرا فى العام 1985 جذبا إنتباه العالم إلى سينما إيران المُنبعثة من جديد هما فيلم The Runner (1985) للمخرج "أمير ناديرى" وفيلم Bashu, the Little Stranger (1985) للمخرج "بهرام بيضائى".


فى فيلم The Runner، يعيش شابٌ يتيمٌ أُمىّ فى صهريج زيت صدئ مهجورٍ فى حيٍ فقير من الصفيح بجوار الخليج الفارسى. يُصور الفيلم بكل صدق عالم الفقر، فيه جمع القمامة والسرقة هما السبيلان المتّبعان للحصول على طعام، وينجو الصبى بالجرى أسرع من أقرانه الآخرين. 

عارض فيلم Bashu الحرب الإيرانية-العراقية (1980-89)، صراعٌ فيه نصف مليونًا إيرانيًا قَضَوا نَحْبَهم. يصور الفيلم صبيًا يشهد الدمار الناجم عن الحرب، لاسيّما الهجرة الإجبارية للنساء والأطفال. يهاجر الصبى لمنطقةٍ فى إيران أينما يكون غريبًا عن اللغة والثقافة والمناخ. استُغلت المناظر الطبيعية المتنوعة فى إيران بفاعلية، وسمة الـتَآلُف الكونية مع الطبيعة قد رُسمت، فتآلُف المرء من الحيوانات يصبح مُرتبطًا بأزمنة ما قبل الثورة. يلفت الفيلم الإنتباه إلى ثقافة إيرانية ثرية فيما قبل الثورة، بدون إنتقاد الثورة الإسلامية صراحةً وجهارًا.

يقوم فيلم Travellers (1992) للمخرج "بيضائى" على تقليدٍ مسرحىّ، ويتخذ من موقعِ منزله الوحيد فرصةً مُغتنمةً -ضَرُورةً لِقلة التمويل المُتاح. يعود "بيضائى" آجلًا إلى "رمزية الحيوان" فى فيلمه Killing Mad Dogs (2001)، فيه  يُستخدمُ  كلبٌ مَسعُور كإستعارةٍ عن الفساد فى إيران الحديثة. يتعارض الكلب المَسعُور مع صور علاقة الإنسان-الكلب التى ترمز إلى جوانب الثقافة الإيرانية المتوافقة مع التقليد والطبيعة. لقد كانت أفلامُ "بيضائى" المُتعنّتة صعبةَ الإنتاج ،لرقابةِ الدولةِ المُستمرة، والعرض فى إيران. كانت تلك مشاكل إعتيادية أيضًا للمخرجين الآخرين فى إيران، المكافحين لصُنع أفلامٍ شخصية ومثيرة للتحدى. 


عاد أيضًا المخرج "داريوش مهرجوئى" لصناعة الأفلام عقب الثورة الإسلامية بأفلامه Tenants (1986) وSchool We Went To (1989) وHamoun (1990). تتبع ثلاثية أفلامه: Sara (1994) وPari (1995) وLeila (1996) حياةُ النساء فى المجتمع الإيرانى الحديث. تطبعت أفلامه بـهالة المسرح اليونانى حيث النساءُ يرضخن لـمصائر مُفجعة ،لا لخطأٍ منهم، فى عالمٍ يُسيطر عليه الذكور. تتهم أفلامه الطبقات الوسطى الحضرية لعدم دفاعها عن الأخلاق والثقافة الأخلاقية. 



سطع نجمُ المخرج "محسن مخملباف" بأفلامه الثلاث: The Peddler (1986) وMarriage of the Blessed (1988) وOnce Upon a Time Cinema (1992). وُطدت سُمعته بفيلمىّ Gabbeh (1995) وA Moment of Innocence (1996). استفادت، بشكل فعّال، أفلام "مخمالباف" الثرية بصريًا من العناصر الوثائقية. فى فيلمه Kandahar (2001)، صحفيّةٌ أفغانيّةٌ تُدعى "نَفاس" تعود إلى موطنها من منفاها فى كندا، بعد تلقّيها رسالةً من شقيقتها. تعتزم الأخت الإنتحار آناء كسوف الشمس المُحْدق؛ لكونها لم تطق الحياة تحت حكم طالبان. يُصور الفيلم العراقيل التى واجهتها فى محاولتها لبلوغ أختها فى "قندهار". ملئٌ هو الفيلم بالسرد وتارةً بالصور السوريالية، كمشهدِ الأطراف الصناعية التى تمت إنزالها بالمظلات فى معسكر الصليب الأحمر لضحايا الألغام الأرضية. استُخدم الخمار كرمزية للقمع على مدار الفيلم، مع رفع "نَفاس" له بإستمرار. يُصور فيلم Kandahar بشكلٍ واقعىٍّ، بُناءً على تجربة حقيقة للمَنفيّة الأفغانية "نيلفور بذيرا -التى قامت بدور نَفاس فى الفيلم، المآساة الشخصية والفقر الناجمان عن الصراع فى أفغانستان. يأَهَلَ الفيلم أناسٌ حقيقيون، فى تلك الحالة، لاجئون أفغان فى قرية "نياتاك" الحدودية، أينما لا كهرباء ولا مياه نظيفة ولا معالجة كافية لمياه الصرف الصحى. إلا أن ما عُرض لهو أفضل وأحسن من الظروف الخطرة داخل أفغانستان. قيل بأن جورج بوش شاهد هذا الفيلم قبل غزوه أفغانستان. إلا أنّ خطابه "محور الشر" القارع لطبول الحرب التافه فى السنة اللاحقة لم يفعل أى أفضالٍ لصانعى الأفلام الإيرانيين ولا إصلاحاتٍ تقدمية فى إيران. يعيش "مخمالباف" موقفًا صعبًا فى فيلم Kandahar. قيل بأن السلطات الإيرانية كانت حريصةً على فيلمٍ يُظهر اللاجئين الأفغان بمظهرِ المُكرهون الغير مرغوبٍ بهم، إلا أنّ مُعاملة طالبان للنساء يمكن أن تُقرأ بالتبعية كنقدٍ للنظام الإسلامى فى إيران. وأخيرًا، الدمج القوى للخيال والوثائقية فى الفيلم لَمحكومٌ على نحوٍ ممتاز.



بالنسبة لى، "عباس كياروستمى" لَهو المخرج الإيرانى الأكثر إثارة للإهتمام. ترتكز سينماه الدقيقة المُحكمة على إعداد مسرحى mise-en-scčne هامٍ للغاية ويُظهر المعلومات بتأنٍّ؛ مُعطيًا الجمهور مساحةً للتفكير. تلك سينما تجد صداها، لا تلك التى تُلقِّن، بمعية تأثيرٍ دائمٍ لا فورى. عُنىّ "كياروستمى" بطمس التباين بين الفيلم الروائى والوثائقى، وتحديدًا فى باكورة أعالمه. فالخط بين ما هو خيالى وحقيقى تحديدًا سائلٌ مائع، مثلًا، فيلميه Homework (1988) وClose-Up (1989). يُستخدم أسلوب الإنعكاس الذاتى لتحليل جوهر الهوية والحرية والتعبير، لطرح أسئلة السينما ذاتها ومن ثمّ الوصول إلى الحقيقة بشكلٍ غير مباشر. فى فيلمه Homework، يُسأل طلابٌ فى مدرسةٍ عن واجبهم المنزلى، يكذبون دائمًا حول إيثارهم واجبهم المنزلى عن مجموعة من الأنشطة الأخرى. إنطلاقًا من أساسٍ بسيط، تتحول تلك الشُدفة المحكمة من سينما الواقع Cinéma vérité إلى نقدٍ لعموم النظام التعليمى فى إيران المعاصرة. لكونه صُور آناء الحرب الإيرانية-العراقية، يُشير بأن التعليم قد أضحى أكثرَ قليلًا من ترديد دعاية عسكرية. 

قصة "حُسين سبيزيان" الشهيرة الذى إنتحل شخصية المخرج الشهير "محسن مخمالباف" سُردت فى فيلم Close-Up، فيلمٌ قائمٌ على قصةٍ حقيقية. محنة "سبيزيان" الحقيقية يُعاد بناؤها من جديد، حيث يواجه تلك العائلة التى اتّهمته بالحصول على المال منهم بالإحتيال، لتصديقهم إياه بأنه محسن مخمالباف، والصحفى الذى حاول كشف الحقيقة. بعد ذلك يُفكك الفيلم مفاهيم الحق ضد الباطل (وثائقى مقابل خيالى). ينتهى ذا الفيلم البارع والمُضحك بإسقاط العائلة للتهم وتجاوز"مخمالباف" عن"سبيزيان" لإنتحاله الإحتيالى لهويته.


ملئيةٌ هى أفلام "كياروستمى" بالشاعرية والصور الفنية. ثمّ خطٌ يعود من السينما الإيرانية المعاصرة إلى الشعراء ورواة القصص الفارسيين القدماء، عبر رباعيات عمر الخيام. جالسٌ برعونة بجانب الأصولية الإسلامية المعاصرة، ذلك فرع الثقافة الذى صُبغ بالشاعرية وأصداء الزرادشتية، ذلك الدين الذى حالما سيطر على بلاد فارس، أُبصر فى مثول الأبراج المُحدقة وجثوة المقابر فى الأرض القاحلة والمناظر الطبيعية الجميلة. تخلل التصوف الآتى من تلكم المصادر العتيقة كثيرًا من أفلام كياروستمى، وهذا بيِّن، مثلًا، Where is the Friend's House? (1987) وAnd Life Goes On (1992) وThrough the Olive Trees (1994)، أفلامٌ فيها فن التصوير الطبيعى هو التأثير الأعظم. نُظم الفيلم الأوسط من تلك الثلاثية وسط الدمار الناتج عن زلزال 1990 فى الشمال الإيرانى.



فى فيلمه A Taste of Cherry (1997)، يقود رجلٌ سيارته متجولًا باحثًا عن أحدٍ سيساعده فى الإنتحار بدفن جثته. محرمٌ الإنتحار عند المسلمين، ويرتأى صعوبةً فى إيجاد شريكٍ لتلك الجريمة. يوافق أخيرًا حارس متحف لكن بدوره يريد معرفة كيف يمكن له أن يرغب فى الموت متى كانت حوله كلُ عجائبِ الطبيعةِ. نموذجية الفيلم تكمن فى وجود قليلٍ من المشاهد الداخلية interior والكثير من المناظر الطبيعية القاتمة، التى أصبحت متممةً لأخلاق البطل ومأزقه النفسى. يستخدم كايروستمى السيارة لتأثيرٍ جيد، مثلًا، ليرمز إلى رحلة أو للعمل فى إطارٍ ثابتٍ كان أو متحرك. صُور فيلم Ten (2001) كله من أمام سيارة ويبدو وكأنه وثائقى. يتتبع مأزق النساء فى "طهران" الحالية، بالإضافة إلى إستكشاف موضوعات كياروستمى المعتادة كالعلاقة بين الحقيقة والخيال والواقع، بنمطٍ موثر لكنه مرح.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جميع الحقوق محفوظه © محمد م. الشرقاوى

تصميم الورشه