مقدمة تمهيدية (2004) Prologue هو فيلم قصير للمخرج الهنجارى بيلا تار. يتكون من لقطة واحدة تتابعية، تُظهر أشخاص يشبهون العمال ذوى الياقات الزرقاء ويقفون أمام حائط من الطوب. بعد تتبع طابور كبير من الأوجه لبضع دقائق، يطرح الفيلم سؤالًا واحدًا. ما الذى ينتظره كل هؤلاء الناس؟ تنتهى اللقطة أمام نافذة مفتوحة على الحائط المبنى من الطوب حيث تعطى امرأة حقيبة صغيرة من الطعام وكوب من البلاستيك ملئ بالمشروبات لكل واحدٍ منهم. الساعة على الجدار خلف المرأة تدق الثانية عشر. إنه وقت الغذاء. تُدون المرأة ملاحظة عن كل شخص تخدمه، يبدو أنها تعدهم. الفيلم مصحوب بالموسيقى المركبة للمؤلف والملحن ميهايل فيج Mihály Víg الذى تعاون معاه بيلا تار الكثير من المرات سابقًا.
فيلم (2004) Prologue هو جزء من مشروع مكون من 25 فيلمًا من صناعة مخرجين من دول أعضاء فى الإتحاد الأوروبى بعنوان "رؤى أوروبا - Visions of Europe". شارك مخرجون مشهورون مثل بيتر جريناواى وآكى كاروسماكى وآخرين فى المشروع حيث يقومون بإخراج أفلام قصيرة عن الطريقة التى يرون بها أوروبا. يعرض فيلم Prologue وجهة نظر بيلا تار لأوروبا بالأصالة عن هنجاريا.
بالنسبة لبيلا تار، لا يمثل فيلم عن بؤس العمال مفاجأة. منذ أعماله المبكرة، عُرف بيلا تار بأفلامه السياسية التى تصور نضالات واقع الطبقة العاملة. بالرغم من هذا الموقف السياسى السائد، إلا أن سياق أفلامه ليس دائمًا بهذا الوضوح. على الرغم من أننا يمكن أن نفترض بأنها تشير إلى حقائق سياسية وإجتماعية فى هنجاريا، إلا أنه لا يمكن للمرء أن يجزم بذلك. استخدم بيلا تار ممثلين من مختلف الجنسيات فى أفلامه، وقصصه عادة ما كانت تحوى شخصية عالمية. مع ذلك، هذا الوقت كان من المفترض أن يتحدث عن أوروبا. يمكن للمرء أن يدّعى بأنه لم يتردد فى تقديم صورة نموذجية لهنجاريا الفقيرة كنموذج لأوروبا. تبدو الخلفية فى الصورة مرتبطة ببلده. لكن هل هى حقًا هنجاريا فى النهاية؟
ربما يتجنب بيلا تار مرة أخرى الإعداد الدقيق precise setting لفيلمه، تاركًا اياه عُرضة لتفسيرات مختلفة عن عالمية السياق الذى يعرضه. ربما يتجنب بيلا تار زمن ووضع محددين، لأن لديه شعور بكيف أن التاريخ يعيد نفسه تحت ظروف إجتماعية معينة. فى الرأسمالية غير المقيدة، خطوط الفقر ليست بالشئ الجديد. تأمل اللوحة أدناه كيف أن الأشخاص فى لوحة ديكنسيان تشبه الأشخاص فى فيلم بيلا تار.
تعد الموسيقى المكررة الفريدة واللقطة الفردية المتواصلة إختيارات تبدو وكأنها تخدم الرسالة التى يرغب المخرج فى إيصالها للمشاهدين. ليس واحدًا، الكثير من الناس، مالا نهاية من الناس ينتظرون. وهو -يقصد طابورالأشخاص فى الفيلم- لا يبدأ ولا ينتهى فى مكان ما، إنه لا نهائى. ليس للفقر حدود فى إنتشاره فى الرأسمالية. لديه وجه، لكنه مجهول فى نفس الوقت. تذكر كيف تتبع الكاميرا وجوه الأشخاص الجائعين الخالية من المشاعر، منتظرين فى طابور للحصول على جزء من الطعام. مع ذلك، عندما تتوقف الكاميرا أمام النافذة المفتوحة، فإننا نرى فقط الجزء الخلفى من رؤوس الأشخاص أثناء خدمتهم. شخصيتهم لم تعد قابلة للمتييز. هم بمثاية وحدات. بتم خدمتهم وعدهم كوحدات.
والحقيقة أن الرؤية الوحيدة لأوروبا الموجودة الآن هى رؤية مماثلة لتمدد الفقر والظلم. يتحتم على المزيد والمزيد من الناس فى أنحاء أوروبا مواجهة الواقع اليومى المُصَورفى فيلم Prologue. تُعد طوابير الجوع هذه مسكنًا لمزيد ومزيد من المجموعات الإجتماعية social groups. زاد عدد المشردين بسبب الأزمات الإقتصادية فى السنوات الأخيرة. بالنسبة لدول جنوب أوروبا مثل اليونان واسبانيا والبرتغال، حيث تسببت الأزمة الإقتصادية فى تغيرات إجتماعية خطيرة فى السنوات الأخيرة. تزايدت طوابير الإنتظار أمام "المطابخ" العامة بشكل كبير. على سبيل المثال، فقط فى "آثينا" ارتفع عد الأشخاص الذين يحضرون "طوابير الجوع" إلى حوالى 50% فى العامين الماضيين، بغض النظر عن الأشخاص الذين يسعون للحصول على مساعدة من "مطابخ التضامن" غير الرسمية التى يتم تنظيمها من قبل شبكات مختلفة من الناس والجمعيات فى جميع أنحاء المدينة. لم يعد يهم إذا كنت تعيش فى أوروبا الشرقية. هذا النموذج من النمو ليس له حدود بين الشمال والجنوب والشرق والغرب، فقط حدود الطبقات الإجتماعية.
تنبأ فيلم بيلا تار بأوروبا اليوم. تقول العديد من التقارير بأن الأرقام الوطنية للنوم على الرصيف فى اسبانيا ارتفعت بنسبة 23% فى السنة حتى خريف 2011، نمو أكثر دراماتيكية من أى شئ شوهد منذ التسعينيات. هناك أعداد غير مسبوقة من المشردين، ولم تعد تقتصر على مدمنى الكحول، مدمنى المخدرات أو المرضى عقليًا. يأتى المشردون من شتى مناحى الحياة. تشير العديد من الدراسات بأن الطبقة المتوسطة والشباب والفقراء إلى حد ما هم الآن أكثر عرضة لينتهى بهم الأمر فى الشارع. تمثل "طوابير الجوع" التى تنمو فى جنوب أوروبا صورة أكثر شمولية لأوروبا. بعد كل شئ، ازداد التشرد والفقر فى دول أوروبا الشرقية الواقعة فى المنطقة السوفيتية سابقًا رغم كونها مدخلًا لأوروبا الواعدة. على الرغم من التشاؤم التى قد تبدو عليه، فإن تصوير تار لأوروبا بمثابة تمثيل لا يمكن لأحد أن يتحداه. يمكن اعتبار رؤية بيلا تار لأوروبا عام 2004 بمثابة كليشية بالنسبة للبعض. لكن على ما يبدو، كانت رؤيته ذلك الوقت ليست فقط دقيقة، لكنها كانت بمثابة تحذير لما هو آتٍ. نهاية الأزمات الإقتصادية لم تنته بعد. "طوابير الجوع" فى تزايد، بينما تعتنى أوروبا بالقلة القليلة القوية التى تستفيد منها.
النص الأصلى: Béla Tarr’s Prologue (2004)
النص الأصلى: Béla Tarr’s Prologue (2004)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق